من أنا

صورتي
السعودية
للقراءة الهادفة في كل المجالات طعم مميز ..وللشعر العربي القديم معزة خاصة .

الاثنين، 4 فبراير 2013

فلسفة دائرية .. ماذا لو أختفت الدائرة ؟؟

منذ قديم الزمن، شغلت الدائرة تفكير العلماء والمخترعين كاليوناني إقليدِس، الملقب بـ «أبو الهندسة» الذي شُغل بالدائرة وتحدث عنها كثيراً في كتابه «العناصر» وظلّت نظرياته في علم الرياضيات والهندسة تدرس حتى القرن العشرين. درس إقليدِس فرضيات الدائرة وأبعادها فقادته إلى استنتاجات كثيرة تحولت إلى أساسيات في علم الهندسة، ثم وضع بناءً عليها نظام «البديهيات» الذي تطور لاحقاً على يد العالم المسلم محمد الخوارزمي إلى «علم الجبر».
لقد كانت الدائرة ولا زالت إحدى أهم بديهيات الحياة التي لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها، فبفضلها تقدمت البشرية وارتقت، وكلما تعرف الإنسان عليها أكثر كلما تطورت حياته.
انظر حولك، فلولا الدائرة لما اختُرِعت العجلة التي يقول المؤرخون أنها وُجدت في الألفية الخامسة قبل الميلاد، وبها تمكن الإنسان من قطع الدروب القفار بيسر. لولا الدائرة لما تمكن مطوروا الإطارات المطاطية من أمثال الاسكتلندي «جون دنلوب» والفرنسيان «إدوارد وأندريه مشيلان» من تغيير حياة البشر.
فكلما ركبتُ السيارة أمعنت التفكير في الإطارات التي تدور تحت تلك الهياكل الحديدية من حولي واستغرب، كيف استطاع الإنسان أن يوجد هذه البديهية الجدلية التي تنقله بسرعات فائقة وعبر مسافات طويلة دون أن يشغل ذلك باله! ثم أتساءل، لماذا نسمع عن الطريق الدائري في المدن، لتسهيل حركة المرور، ولا نسمع عن الطريق المربع؟
لولا الدائرة لما استطاع الإنسان أن يطير، فلم نرى يوماً، وربما لن نرى، محركات طائرات مربعة أو مستطيلة، لا أدري لماذا، ولكن يبدو أن المحركات الدائرية هي الوحيدة القادرة على حمل الإنسان في السماء، والانطلاق به إلى الفضاء.
تكاد الدائرة تشكّل كل شيء في حياتنا دون أن نلقي لها بالاً، انظر إلى المصابيح الكهربائية حولك، هل ترى مصباحاً مربعاً أو مستطيلاً؟ انظر إلى غطاء قنينة الماء، هل يمكنك تخيله مثلثاً؟
إن الدائرة معضلة أعجزت العلماء على مر التاريخ عن حلّها، فهناك ما يعرف بمشكلة «تربيع الدائرة» القائلة باستحالة تحويل مربع بأبعاد معينة إلى دائرة باستخدام نفس الأبعاد والحصول على نفس المساحة، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية. يا لهذه الدائرة التي لو اختفت من حياتنا لعدنا آلاف السنين إلى الوراء، ولتوقف كل شيء في حياتنا.. ترى كيف سيبدو العالم دون دوائر؟
إن أكثر ما يعجبني في الدائرة هو خلوّها من الزوايا، فالزاوية هي نهاية الطريق، وفيها تَحتَبِسُ العتمة ويختبئ الظلّ، وفيها تبني العنكبوت بيوتها، وإليها تنزح الحشرات وفيها تسكن الكائنات التي لا نحبها، والتي نخشاها أيضاً.
ليس للدائرة أطراف حادة، ولذلك فإنها لا تنكسر بسهولة، وإذا ما اصطدمت بشيء فإنها لا تؤذيه مثلما تفعل الأشكال الأخرى. ليس للدائرة غير وجه واحد فقط، بعكس المربع الذي يحمل عدة أوجه، وعليك أن تتأكد جيداً عندما تشتري بضاعة مربعة بأن جميع أوجهها سليمة.. الدائرة لا تغشّك مثل المربع، إنها صادقة دوماً وتحكي ما يدور بداخلها دون تردد، لذلك كانت العيون دائرية.
الدائرة هي الصفر، ذلك الرقم الرمزي شكلاً، الحقيقي فعلاً. الصفر يضاعف الأرقام دون أن «يضربها» ودون أن يؤذيها، فهو على صمته وبساطته، يحيل العشرة مئة، ويحيل المئة ألفاً دون أن يتكبد عناء التوقف عند الأعداد التي تقع بينهما.. كم هو سريع هذا الصفر، وكم يختصر حياتنا، مثل الدائرة تماماً، ولذلك يفضّل الإنسان أن يخسر رقم تسعة أو ثمانية على أن يخسر صفراً واحداً.
الدائرة هي النقطة، ولولا النقطة لعادت القراءة وانحصرت في مجموعة قليلة من الناس ولانحسرت إلى الزاوية. النقطة عدوّة الجهل، تحاربه كل يوم، وفي كل مكان.. في الكتب، وفي الصحف، وفي الإنترنت. توضع النقطة في آخر السطر لتدعونا إلى التوقف والإنصات، فكلّما أنصتنا أكثر كلّما تعلّمنا أكثر.
إن الأشكال ذات الأطراف الحادة تعبّر عن الشدة والغضب أحياناً، هكذا تعلّمنا في علم التسويق، وكانوا ينصحوننا باستخدام أشكال ذات أطراف دائرية حتى لا يشعر الناظر إليها بالخطر، وحتى يحبّها، وربما حتى يحبّنا.
لو كانت الأرض مربعة لكانت لها أطراف ونهايات، ولتوقف الرحالة والمسافرون عند أول نهاية صادفتهم، وحدها كروية الأرض دفعت الإنسان إلى اكتشاف المجهول، وبفضل هذه الكروية، يشعر الناس بأنهم متساوون ومتقاربون.
أكثر ما أحب في الدائرة هي أنها تجسيد للأبدية، فلا بداية لها ولا نهاية، ولذلك كان خاتم الزواج دائرياً. قد تعبّر الدائرة عن الحب في قلادة ذهبية، وقد تعبّر عن الظلم في حبل مشنقة.. قد تكون الدائرة فوّهة بندقية، وقد تكون طوق نجاة.
علينا ألا نظلم الدائرة لأننا نحن الذين نحدد استخداماتها. الشيء الوحيد الذي تعرفه الدائرة هي أنها تحب أن تدور على الدوام، وتمشي إلى الأمام، وحده الإنسان يسعى لإيقافها أو عكس دورتها، عندها، تصبح الحياة دائرة مفْرَغة، ويغيب الشعور بالإنجاز، فالعبث يُفضي إلى الجهل، والشغف يُفضي إلى المعرفة.

ياسر حارب..

هناك 5 تعليقات:

  1. فلسفة دائرية تدعو للعجب
    وجميلة هي الأشكال الدائرية
    تحياتي وتقديري

    ردحذف
  2. بالرغم من ان هناك من يقضي حياته القصيرة بالدوران في دوائر مغلقة وراء كل غث وتافه..واخرون من تدفعهم تلك الدوائرلاكتشاف المجهول !!والبحث عن المعرفة..

    شكرا عزيزتي ولبصمتك هنا عظيم الاثر

    ردحذف
  3. الاخت زهور الريف...تحيةعطرة...مقال رائع للكاتب الاماراتي ياسر حارب حول فلسفة الدائره في حياتنا؟....والذي وضح به الاثر الكبير في الدائرة في حياتنا وانا اضيف وفي الكون الذي هو عبارة عن دوائر ومدارات دائرية وافلاك وشموس كلها دائرية انها نواميس الله.....تشكري على نقلك لنا للمقال الرائع..وشكرآ لاختيارك.....اخيك البحر....

    ردحذف
  4. السلام عليكم
    شكراعلى اضافتك استاذ البحر الكريم
    دوما لك بصمةفريدة تزيد الصفحة فائدة.
    حقا فالمتأمل في بديع صنع الله يبهره تلك الحبكة وذلك النظم المتقن ..دوائر وأفلاك سبحان الله .
    دمت بخير

    ردحذف
  5. بيني و بين الدوائر عدة روابط ....فأغلب مدارات فكري دائرية
    و الكون نفسه دائرة كبيرة ...
    مقالة أعجبتني كثيرا وقتما كنت أقرء تذكرت الكعبة الشريفة فبرغم تربيعتها إلا أن الطواف حولها دائري.

    تحياتي لهذا القبس .

    ردحذف